Vol. 1 No. 1 (2012): Kufa Review | مجلة الكوفة

ثمة أسئلة ملحّة تنتابُ الثقافةَ العربية اليومَ شرقاً وغرباً، أسئلة طالما خضعت للتمحيص والبحث، لكنها أبداً مستعصية؛ أسئلة تخصّ وجود الإنسان، وهويته، وتاريخه، وصراعه مع الآخر، وعيشه في هذا العالم. وستظلّ هذه الأسئلة خاضعة للبحث ما بقي الإنسان يعيش في تاريخه، فيبحث فيه، ويشعر بهويته فيسائلها، ويستعصي على الآخر والآخر يستعصي عليه فيسعى إلى فهمه. تأتي هذه المجلة لتواصل هذا الدرب، درب البحث الاجتهادي، الذي يعيد التفكير في الأسئلة مرة إثر أخرى، ليجترح نطاقاً من الإجابات مختلفاً ينبع من الزمن الخاص الذي نحياه، ومن المكان الخاص الذي نحيا فيه، ومن المعرفة المتحصّلة التي تصوغ رؤية البحث ومنهجه؛ إنها مجلة للتواصل والفهم والبحث. وهي تحاولُ أن تفعلَ فعلَها عبر تشبّثٍ مبدئيٍّ بأصول البحث الأكاديمي الرصين الخارج من سحابة عملٍ مثابرٍ مشغولٍ بموضوعه ومنهجيته. أما التحدّي فيواجهُ أيَّ محاولة لإصدار مجلة فكرية أكاديمية تعنى بالدراسات الاجتهادية في زمنٍ صار فيه التواصل عبر الانترنيت أسرعَ وأرشقَ وأخفَّ على القارئ. إذن، أما زال ثمة إمكانية للتواصل مع القارئ عبر مجلة أكاديمية؟ نحاول أن نتفاءل بالإجابة بـ"نعم". إذ ما زال الكمّ الهائل من المعلومات والدراسات والتقارير يقصّر عن اللحاق بسرعة الأحداث، فثقل التأمل، وأناة الدارس/الدارسة المتأصلة في طبيعة عمله/عملها، ووطأة الكتابة الرصينة، كلّها تتطلّب جهداً لا يستجيب للسرعة والخفّة والرشاقة، بل للتفكير المتأني، ودرس الظواهر، والإحاطة الشاملة بظروفها، وهذا ما لا تفيه زياراتٌ انترنيتية، ولا تغطّيه شبكات التواصل الاجتماعي، بل كتابة جديدة تشرع من جديد في التفكير في كلّ ما فكّرنا فيه من قبلُ، وذلك إضفاء الحيوية على الفكر نفسه، والموضوع المفكّر فيه، والخلوص إلى نتائج جديدة. قد يصيب القنوطُ ذوي الهموم البحثية من جدوى كلّ مشروع معرفي في زمن عربيّ يموجُ بالمتغيرات الجذرية الشاملة، زمن عربيّ اختُلفَ فيه بين أن يكون عابراً قصورَه إلى سنّ الرشد وهو يشرع في معالجة مخاض ديمقراطياته الحديثة "الخاصة" في العراق منذ (2003)، إلى "الربيع العربيّ" في بعض البلدان العربية منذ (2011)، أو أن يكون ماضياً إلى أشدّ أوضاعه إظلاماً وحلكةً بانتعاش الإرهاب، والحروب الأهلية، والتخندقات الطائفية والعشائرية. لكن آفاق المعرفة المنحسرة تحفّز فريقاً على مقاومة الظلام بمزيد من بحوث الاستنارة، ومزيد من مشاريع فتح الآفاق. ولذلك تعوّل هذه المجلة الأكاديمية الجديدة، في عالم ضاجّ بالمجلات الأكاديمية غرباً وشرقاً، على جديدها القادم من مشاربَ مختلفةٍ عربية وأجنبية، شرقية وغربية، دون وضع حدود أو شروط على الإبداع في التفكير، فشرطها الوحيد هو الاجتهاد. ينطلق هذا المشروعُ من القناعة بأن تكاثرَ البحث والتثاقف والحوار هو السبيل الأنجع لمحاصرة الأحادية والاستبداد والعنف، وأن من أخطر دوافع الاحتكام إلى هذه الأدوات ضعفَ المؤسسات الدستورية والنشاط العلميّ التنويريّ الرصين القادر على التصدي للمعضلات التي طالما شلّت مجتمعاتِنا العربية المأزومة. ترصد المجلةُ مشكلاتِنا العربيةَ على أصعدة عدة، فكرية واجتماعية وأدبية وتاريخية، وتدعو إلى تسليط ضوء جديد على جذور ما آلتْ إليه أوضاعُ العرب الآن على جميع تلك الأصعدة، ففي الجذورِ تكمنُ العِلل وما الماضي إلا مكوّن حاضر أبداً في كلّ لحظة راهنة. وهي تأتي أيضاً محاولةً في طريق بناء شبكة دولية للتواصل الفكري والتشارك في بلورة الرؤى، وضمن منظورها هذا تحاول أن تتخطّى بُعْدَها العربيَّ إلى البعد الغربيِّ لتقرأَ ما عنده قراءةً وتُقرئه ما عندنا إقراءً بعد أن أَشْكَلَ علينا وأَشْكَلْنا عليه، فبحث عنّا وفينا بحثاً قاصراً، ولم نبلغ نحن فيه مستوى البحث القاصر. ولذلك ظلّ يهاجمُنا ونهاجمُه ترجيعاً لصدى التاريخ، وارتداداً للطبيعة الأولى. ولذا تحرصُ هذه المجلةُ على أن تجمع بين دفّتيْها لغتيْن (العربية والإنجليزية) لتقدّم بضاعتَنا وبضاعةَ الآخر على صعيد سواء، ولذا ستولّد فرصةً لاجتماع الطرفيْن، وقدحِ حجرٍ بحجرٍ فكراً ونقاشاً في الاتجاهات كلّها. أخيراً، لا مناصَ من الإشارة إلى أن اسم المجلة (الكوفة) يتناغم مع حاضنتها الطبيعية الكوفة جامعةً ومدينةً؛ الأولى تحاولُ أن تضعَ بين دفّتيْها ما يمكنُ أن يشاركَ في بناءِ ثقافةٍ حديثة، مثلما كانت الثانيةُ حقلاً أنبتَ الفقهاءَ والشعراء والنحويين والكيميائيين والأطباء؛ كانت حَلْبةً تنافست عليها العلوم الإسلامية واللغوية والشعرية. كانت الكوفةُ أجرأَ مدينةٍ في التساؤل والسؤال، ولم تطمئنَّ لواحدية البحث والرأي، بل جمعت أشدَّ الاتجاهات اختلافاً سواء أكان ذلك في علم النحو أو الكلام أو الفقه، ولعل السَميَّ الجديد، مجلة الكوفة، تُشبهُها في الجرأة في البحث والرأي.