الثقافة العراقية والسلطات الثلاث
Keywords:
تاريخي, فلسفي, اجتماعي, انسانيAbstract
في أواخر عام 1914، احتلَّتِ القوّات البريطانيَّة القادمة من الهندِ الفاوَ، وبدأت زحفَها باتِّجاه البصرة. وكان "الجهاد" هو الآليَّة التَّلقائيَّة التي تقاوم بها المجتمعات المسلمة احتلال قوَّةٍ أخرى لها، وقد سبق أن أعلنته دول شرق آسيا المسلمة، في محاربتها للبرتغاليِّين والهولنديِّين، كما أعلنته الدَّولة العثمانية في حروبها مع الأوربيِّين. فصارت تتوالى النِّداءات والطَّلبات على النَّجف، لكي يعلنَ العلماءُ المجتهدونَ فيها دعوةَ الجهاد. بعث السَّيِّد محمَّد القزوينيُّ، كبير علماء الحلَّة، إلى السَّيِّد محمَّد سعيد الحبوبيِّ بيتين من الشِّعر:
نحنُ بنو العربِ ليوثُ الوغى دينُ الهدى فينا قويٌّ عزيزْ
لا بدَّ أن نزحفَ في جحفلٍ نبيدُ فيه جحفلَ الإنكليز
ولأوَّل مرَّة في تاريخ الاحتلال العثمانيِّ للعراق، توافقت جميع طبقات المجتمع العراقيِّ ومكوِّناته السُّكانيَّة على ضرورة طرد المحتلِّ الإنكليزيِّ، فالتأمت كلمة رجال العشائر، ورجال الدِّين، وقوِّة الجيش العثمانيِّ تحت شعار "الجهاد".
تقتضي طبيعة المواجهة العسكريَّة أن تكونَ القيادة في يدِ السُّلطة التي تمتلك أقوى الأسلحة. وبالطَّبع كانتِ المدافعُ عند العثمانيِّين. أمّا أسلحة رجال القبائل فكانتِ البنادقَ، بينَما لا يحمل رجال الدِّين سوى السُّيوف، لكنَّهم أرادوا مع ذلك أن يضربوا المثل الأعلى في الشَّجاعة لدى رجال القبائل. فنصبَ بعضُهم خيمتَهُ في الطَّلائع الأماميَّة للجيش. وفي ذروة احتدام الصِّراع، سَرَتْ شائعات بأنَّ القائد العثمانيَّ سُلَيمانَ العسكريَّ قد انتحر، ممّا أثَّرَ كثيراً على معنويّات الجيش، فابتدأ رجال العشائر بالهرب من ساحة القتال، ثمَّ تبعَهم الجنود العثمانيُّون. وتقول المصادر العثمانيَّة إنَّ هذه شائعة أطلقتها القوّات الإنكليزيَّة. غير أنَّ هناك رواياتٍ شفويَّةً عن بعضِ مَن شاركوا في الأحداث أنَّ انتحار سُلَيمانَ العسكريِّ لم يكنْ مجرَّد شائعة. بل هو حاول الانتحار فعلاً بسبب شعوره بعار الهزيمة، لكنَّ زملاءه الضُّبّاط جرَّدوه من سلاحه، ومدَّدوه على سريره، وغطَّوه. ولم يكنْ في حسبانهم أنَّه يحمل مسدساً صغيراً كانَ يُخفيه في حذائه، وبه أطلقَ النّارَ على نفسه.